قبل أن تذهبوا…!!! كامل إدريس بين أحلام التغيير ومتاريس الواقع
دكتور/ عبد المنعم المهل

◇ في ظهوره الأول بعد أداء القسم، بدا البروفيسور كامل إدريس وكأنه يحمل آمالًا كبيرة لمرحلة جديدة في تاريخ السودان المضطرب. تهلّل بعض الناس، ورأوا فيه بادرة أمل وسط ركام الحرب والانهيار. ومع إطلالته الإعلامية الأولى، تزايد التفاؤل بقدوم رجل دولة يعمل بعقلانية ومهنية. لكن الواقع، كعادته، لم يكن على ذات الوتيرة.
◇ فبدلاً من خطاب يحمل تطمينًا للمواطن، ويخاطب وجعه من موت وقتل ونزوح وجوع، جاء خطاب إدريس مكرورًا، ملامحُه لا تختلف كثيرًا عن خطابات السلطة العسكرية التي استمرأت الحرب وتغذت على استمرارها. لم نسمع تعزية واحدة لأسر الشهداء، ولا كلمة مواساة للجرحى والمنكوبين، ولا اعترافًا بمحنة وطن تنهشه الأوبئة والانقسامات.
◇ كنا نأمل أن يقول، ببساطة:
“إن ألمكم هو ألمنا، ومصابكم هو مصابنا جميعًا… لقد استلمت مهامي اليوم لأعيد الأمن والكرامة والحد الأدنى من السلام لحياتكم، وسأعمل من اللحظة الأولى على وقف الحرب لا تغذيتها.”
◇ لكن إدريس… كما بدا، فضّل أن يردد عبارات مغلقة المصدر، صيغت على ما يبدو في غرف اجتماعات عسكرية، فاستهل مهامه بالدعوة لمواصلة القتال ضد “التمرد”، دون أن يتوقف للحظة أمام عبث الحرب وتكاليفها الباهظة على أرواح وكرامة السودانيين.
◇ فهل يدرك كامل إدريس أنه لم يأتِ إلى موقعه ليكرر سرديات الحرب، بل ليحمل مسؤولية دولة تقف على حافة الانهيار؟ هل يعي أنه ليس أمامه ترف الوقت، وأن السودانيين لا ينتظرون منه بيانات تقليدية، بل مواقف جريئة تعيد الاعتبار للمدنيين وتوقف نزيف الأرواح؟
◇ لقد آن لهذا الوطن أن يسمع خطابًا جديدًا، لا يعيد إنتاج ذات اللغة التي خربت البلاد. والحرب القائمة، رغم تمرد الدعم السريع الواضح، لا يجب أن تُواجَه فقط بالرصاص، بل بالحلول السياسية، كما فعلت دول واجهت اضطرابات داخلية طاحنة وخرجت منها بالحوار لا بالفناء.
◇ أما إذا استمر كامل إدريس في هذا النهج، فستكون حكومته ؛ للأسف ؛ مجرد واجهة لسلطة تنفيذية يحكمها الجنرالات، لا رئيس وزراء صاحب قرار. فهل سيقدر على تشكيل حكومة تكنوقراط حقيقية، أم ستكون حكومة ترضيات ومواقع كما يحدث في كواليس بورتسودان؟
◇ لا مجال للمقارنة بين عبد الله حمدوك، الخبير الاقتصادي الذي جاء بدعوة من ثورة شعبية، وبين إدريس الذي وصل إلى المنصب محمولًا على ظهر انقلاب 25 أكتوبر. نعم، أخطأ حمدوك كثيرًا، وتوقف كثيرًا، وأُعيق أكثر، لكنه جاء من بين الجماهير، لا من فوقهم.
◇ التاريخ لا يرحم، ومن يكرر أخطاء الماضي سيلقى ذات المصير. ولا يمكن لأي رئيس وزراء ” أياً كان اسمه ” أن يصنع فرقًا في واقع يصر على استبعاد الحوار ويحتكم للسلاح وحده.
◇ يواجه السودان اليوم خطرًا متجددًا بالعزلة الدولية. فهل يستطيع كامل إدريس تغيير ما يُطبخ في أروقة مجلس الشيوخ الأمريكي؟ وهل يملك أدوات إقناع الاتحاد الأفريقي لإعادة عضوية السودان؟ كل هذه الأسئلة لا تجيب عليها الخطب، بل تُجاب عبر المواقف الفعلية والرؤية الواضحة.
◇ إن مفتاح الحل بيد من يملك الشجاعة لفتح أبواب السلام، وبدء حوار وطني حقيقي. من يضع حداً لحكومة المحاصصة والبندقية. من يُقصي تجار الحرب، ويعيد السياسة لأهلها والكفاءة لموقعها.
قبل أن تغادروا:
◇ إما أن يكون كامل إدريس مع ثورة ديسمبر ومبادئها، أو أن يكون استمرارًا لنظام ما قبل الثورة. والأيام، كما يقولون، حبلى بما لم يُكشف بعد.
◇ السودان يستحق السلام، ويستحق قيادة تضع كرامة المواطن وأمانه ولقمة عيشه فوق كل اعتبار. أما إعادة إنتاج “متاريس حمدوك” باسم جديد، فلن تثمر إلا مزيدًا من الألم.